الثلاثاء، 24 فبراير 2015

أنتي فالنتين




   الفرح ضرورة والاحتفال طقس يحاكي دورة الفصول. إن عصراً مديداً في تاريخ البشرية  مارست فيه الزراعة كنمط انتاجي مهيمن جعلت من التلازم بين الاحتفال بمواسم الحصاد والقران الجسدي والحب أمراً طبيعياً. فكانت تلك المحاكاة المتبادلة بين جنيّ المحاصيل والحب، والاحتفال الدوري بهما عاطفة جامحة في النفوس تعبّر عن الرغبة في الاستمرار والبقاء. وقد انعكس ذلك في كل الأساطير القديمة للشعوب والجماعات. حيث التماثل بين النماء والولادة كحقيقة بيولوجية مترابطة وواحدة يُعبّر عنها في أغاني الحصاد والحب.

   إن التحول إلى الصناعة كنمط انتاج مهيمن لم يقتل فكرة الخصب والحب. لكنه قام بتحويرها و(( تصنيعها)). فكان، مثلاً، احتجاز عطر الوردة في قوارير عطر تُغلّف بعلب فاخرة أو بورق هدايا ملفوفة بأشرطة ملونة. وكان قطف الورود وتقديمها كباقة منتقاة زاهية متعددة الدلالات حسب نوع المناسبة. وكانت بطاقات الأعياد والمناسبات. وبلغت ذروة ((التصنيع)) في شكل الدمى مختلفة الأشكال والألوان والوردة الأصطناعية بلونها الأحمر وغصنها الأخضر كرمز شديد الكثافة للخصب الأخضر والحب الأحمر!

   هجرنا الحقول وضيّعنا الزراعة لكنّنا أخطأنا السبيل إلى المدينة الحديثة ولم نبلغ الصناعة في خضّم عملية التحوّل والانتقال. فوعد النهضة العربية لم يتحقّق، وسقطت في ((حداثة هشة)).. فلا بصناعةٍ حقيقيةٍ حظينا ولا بزراعةٍ احتفظنا.. خسرنا الحقل القديم ولمْ نربحْ مدينة حديثة! فما كان للفكر والوجدان إلا أن يتبلبلا ويتحيّرا.. وينتكسا وينكصا إلى الأيديولوجيا القديمة الملازمة للعصور الزراعية. هكذا كان ظرفنا التاريخي الملتبس ملائماً لينطلق الفرسان الملثّمون من هشيم تاريخٍ متيّبس لغزو هشاشة حاضرٍ متحيّرٍ ومحبط. وعرضوا بضاعتهم منتهية الصلاحية في سوقٍ مضطربة وعشوائية تقع بين حقل مهجور ومتصحّرٍ ومدينةٍ عقيمةٍ غير منتجةٍ ومقموعة. وضع تاريخي شديد الارتباك والالتباس ضيّع المسار فلا هو باقٍ في قديمه ولا هو منتقل إلى جديده. لذلك كانت البضاعة في منتهى القسوة والعنف والسادومازوشية! سادية ضد ((آخر)) تقدّم، ومازوشية ضد ((أنا)) تخلّف.. بضاعة ترسل رسالة يصعب قراءتها أو فهمها. فكل تأويل يستلزم أفقا للفهم، ولكن مع ضياع أثر الطريق وعدم وضوح معالم محطة الوصول، يستعصي أيّ فهم. رسالة حافلة بتراجيديا القدر المتناقض لضياع الماضي وامتناع المستقبل. تفجرّت الرسالة ولمْ تتركْ لدى القارئ غير هول الصدمة وبلادة الذهول.. فقد استبدلت الرسالة الوردة الحمراء وغصنها الأخضر بجثة مقطوعة الرأس..! كتعبيرٍ رمزيٍّ كثيفٍ عن حضور لحن الموت الجنائزي وغياب ايقاع الحياة والحب والفرح.

    عجمة زمانٍ  عقيمٍ ألجمت اللسان عن الاحتفاء بالحياة والاحتفال بالحب..!

   ضاعت السبيل إلى مواسم الخصب فانقطع الغناء واستعصت أناشيد الحب..!           

الاثنين، 12 يناير 2015

هجوم إبليس بباريس



   يلجأ العقل البشري إلى اللابشري، في محاولته لمقاربة الأحداث غير المفهومة لعقله العملي، عندما يخفق في التفسير العلمي والسببي للظواهر التي تتجاوز الفهم ومفاهيمه المألوفة في مواجهة الأزمات والكوارث. فيحضر الخارق والمتعالي على شكل تصورات مهوّمة، وهذا ما يشكل الشكل الميثولوجي للعقل الذي يسعى للفهم، في ظل غياب المفاهيم والاشكال المنطقية لتفسير الظواهر وتحديد الاسباب والقوى الواقعية التي تكوّن الظاهرة التي تباغته  كظاهرة غير معقولة. وتماهياً مع هذا الشكل الميثولوجي اخترت عنواناً ذا ملمح غيبي بكائناته الهائمة في العقل الغائم كمثال لغوي للكيفية التي يتعامل بها هذا العقل. عندما علّق الرئيس الفرنسي الأسبق جاك شيراك على الغزو الأميركي للعراق بقوله (فتحنا صندوق باندورا Boîte de" Pandore")، هل كان يخطر بباله إن إحدى تلك الشرور ستداهم باريس ذات يوم؟ إن الغزو الأميركي للعراق، بعيداً عن كل الأسباب السياسية والاقتصادية والاستراتيجية، كان في مستوى معين وبمعنى من المعاني حجراً هائلاً أُلقي في مستنقع آسن كبير.. فكان لابد من انطلاق كل الروائح الكريهة واستحضار كل الأشباح الراقدة في أعماق التاريخ. لقد كانت لحظة صدمة تاريخية حينما اكتشف الجميع دولاً وأفراداً، كم أن بلداننا وأنظمتنا ومجتمعاتنا هي من الضعف والهشاشة بحيث تتهاوى وتتساقط كأوراق ذابلة بهذه السهولة؟ وهي التي كان قادتها السياسيون يتوعدّون ويهدّدون كل معتدٍ بالويل والثبور؟ دول وأنظمة ومجتمعات  كانت تُحسب بشكل من الأشكال وإلى هذا الحد أو ذاك على العصر الحديث. لقد كان وقع الصدمة عنيفاً فبعد أكثر من قرن من تجارب التحديث تبيّن أن حداثتنا كانت (حداثة هشة)، وهنا كان الملام والمذنب هو كل الأفكار والأيديولوجيات الحديثة من اليسار إلى اليمين أي (الآخر)، في حين أن التفكير السليم يستدعي البدء بالنقد الجذري للذات. وبغياب هذا النقد وبعد انهيار هذا الواقع (الحديث!) كان لابد من النكوص الفكري والعودة إلى نماذج من تاريخنا السالف والانزلاق إلى الماضوية. لم تكن كل مناهج التربية والتعليم والثقافة العامة ومعارفنا الإنسانية وخاصة حول تاريخنا قد عرفت النقد الجذري والقطيعة المعرفية بشكل مؤسّسي. أي أن الحداثة لم تخترق (كمؤسسات) كل البنى الاجتماعية والفكرية. إنّ الدولة الحديثة (الدولة- الأمة) قامت بقطيعة جذرية مع المؤسسات والوعي السابق عليها. حين ذهبت إلى احلال الرابطة السياسية والحقوقية بين الأفراد (المواطنة) وترسيخها بدل الروابط السابقة عليها التي تقوم على رابطة الدم والقرابة والرابطة الدينية- الاعتقادية والأثنية..إلخ. هذا التحوّل والتحويل الكامل للمنظومة الفكرية والقيمية والاخلاقية للمجتمع، هو الذي يحدّد مدى نجاح أو فشل الدولة الحديثة. إن هذا ما فشلت فيه دولنا فـ(الماضي الذهبي) كان يعشّش في كل أركان الدولة (الحديثة!) والمجتمع ويهيمن على الوعي الفردي والجماعي، إلاّ من عصمه حسه النقدي! فكان رد الفعل والارتداد عن كل حديث ممكناً ويسيراً وربما مرغوباً أحياناً!.. كان (الماضي الذهبي) حاضراً بقوة وكان (الحاضر الحديث) غائباً! فاستيقظ أبطال التاريخ، وهم يلوّحون مستقطبين المزيد من العقول، بعد الاحباط واليأس من (الحاضر المهزوم!). لقد كان الخطاب السائد قد حرث النفوس وهيّأ العقول، فكم من ملايين كانت تستمع، وما زالت، كل أسبوع إنْ لم يكن كل يوم لعبارات مثل (اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم.. اللهم أرنا فيهم يوما.....) وغيرها الكثير والكثير... هل من الصعب، بعد هذا، تصور سهولة استقطاب الحركات والتنظيمات المتطرفة لهذه العقول؟ لن تكون مدهشة حركة هذه الأفواج من الشباب بحماسةٍ للانخراط في تنظيمات العنف خارج سياق الدولة بعد تشبّعهم بهذا الخطاب وهذا النمط من التفكير والوعي وبعد تهاوي (دولهم).

   لم نشهد فعلاً لحظة التأسيس التاريخية، لقد كنا أشبه بـ (ملحق) للحداثة. إنها عملية صيرورة تاريخية واحدة تتواشج فيها مفاهيم الحداثة والعلمانية والديقراطية، ولا مجال لفصل أو انتقاء أو نبذ أحدها، دون أن تنتكس أية تجربة للدخول في العصر الحديث. وأعمدة هذه العملية تقوم على أساس واقعي متين من الانتاج الصناعي الحديث. ولا يمكن تصور نجاح هذه العملية دون هذا الأساس واستجابة كل القطاعات والنشاطات الاقتصادية والاجتماعية الأخرى لمقولاته وضروراته. لقد عانت المجتمعات في انتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الصناعي الحديث من أهم معضلتين وهما معضلة الثقافة القروسطية السائدة ومعضلة ما يسمى بـ(التراكم الرأسمالي الأولي). ولم تُحسم هاتان المعضلتان دون دفع أثمان بشرية باهظة عبر صراعات اجتماعية دامية. وإنْ كانت معضلة التراكم الرأسمالي في معظم بلدان المنطقة تبدو وكأنها ليست بمشكلة في ظل توفر العائدات النفطية الضخمة، لكنها مشكلة فعلاً بحكم كونها أسيرة عقلية الاقتصاد الريعي، وهذه المشكلة لا يمكن حلها إلاّ بقرار استراتيجي جريء للانتقال من الاقتصاد الريعي إلى اقتصاد يقوم على الانتاج الحقيقي. وهذه مشكلة سياسية بالدرجة الأولى لن يتم تجاوزها إلاّ بصعود قوى سياسية قادرة على اتخاذ قرارت مصيرية جذرية واجراءات حاسمة. أما المعضلة الثقافية فهي مرتبطة أيضاً بالمعضلة الأولى، ولكنها أشد تعقيداً لأنها ستواجه مشاكل الولوج في أعماق البنية الاجتماعية والفكرية والقيمية وتغييرها. من المؤسف أن تجارب التاريخ لانتقال المجتمعات من القديم إلى الحديث لم تتم بغير الصراعات العنيفة والقاسية والتي تكبّدت فيها المجتمعات خسائر فادحة. فالشعوب لا تتعلم وتتغيّر بعقلها بل بدمائها!.

   كلما طرأ حادث مأساوي يثار الكثير من القيل والقال عن الاعتدال والتطرف والاعتقاد والتسامح والذات والآخر.. معظمه يبّرر ويلقي باللوم بعيداً عنه، دون الذهاب إلى أصول وجذور المشاكل الحقيقية المنتجة لهذه الأحداث والظواهر. يتغافل أو يتجاهل الكثيرون، إننا بحاجة إلى لحظة تأسيس تاريخية تعيد النظر في كل أسس وجودنا المادية والفكرية، والحاجة إلى نقد جذري بعيداً عن المعالجات الأصلاحية التي ثبت فشلها حتى الآن... لحظة تأسيس تاريخية تغادر عصراً وتؤسس لعصرٍ جديد كلياً... إن شيطنة الآخر هو بمثابة فشلنا في رؤية الشياطين الحقيقية، والسؤال ليس هو: أين الشيطان؟ فالسؤال الحقيقي هو كيف نحيا إنسانياً بشكل حديث وعصري بعيداً عن كل الشياطين!..

الأحد، 9 مارس 2014

عيد المرأة والرياء الذكوري!


أيوم عيد لمن هي  كل العيد؟
أيّ رياء ذكوري ؟!
يمْنحها يوما من العام
ويحتفظ له ببقية العام!
يلاطفها يوما
ويلعنها، إلاّ يوما، كل العام
أيّ رياء ذكوري؟!
أبتكر عيدا يُلهيها عن عبوديّـتها
يوماً للأحتفال
وبقية العام للأمتثال!

   حسب الويكيبيديا فإنّ المناسبة تعود الى عام (1857) و8 آذار (1908) وشعار ((خبز وورود))، بدأت بأحتجاج النساء العاملات في سبيل حقوقهن الأجتماعية ثم السياسية في نيويورك فأوربا، وصولا الى عام (1977) حيث تبنّت الأمم المتحدة قرارا باختيار يوم عالمي للاحتفال بيوم للمرأة، فأختارت الدول يوم 8 آذار من كل عام لهذه المناسبة.

   في أواخر العهد البابلي القديم (1400-1500) ق.م تاريخ اخر تدوين لملحمة الخلق البابلية إينوما إليتش (حينما في العلى) (طه باقر،مقدمة في ادب العراق القديم)، تكمن أهمية الملحمة في رأيي بتسليط الضوء على العلاقة بين الرجل والمرأة من الناحية التاريخية، باعتبارها أقدم نص أسطوري مدوّن ومعروف حتى اليوم وما يهمني فيه هو العلاقة بين الرجل والمرأة (وهي تحوي كذلك أصول القصص الدينية). والتاريخ أعلاه هو تاريخ اخر تدوين لها، أي أنها تعود الى ماض اقدم من ذلك بكثير حينما لم يكن للإنسان طريقة تدوين أو كتابة وأنمّا كان النقل من جيل الى آخر يعتمد المرويات الشفاهية اعتمادا على ذاكرة الأفراد، وهذا يجعلها عرضة لكل أشكال الحذف والأضافة والتحوير..إلخ
 إنّ الأسطورة تتحدث عن زمن قديم كانت فيه الحياة الأجتماعية مشتركة على قدم المساواة بين الرجل (الإله أبسو) والمرأة (الإلاهة تيامات) وأبنائهما (بقية الآلهة الأقل شأنا)، وقد كان القوم يتصورون آلهتهم كأنعكاس ما لصور الطبيعة ولحياتهم الأجتماعية، وفي خلاف حول مصير الآلهة الصغار كان القرار لتيامات بعد حجب سلطة أبسو. إنّ الأسطورة تتحدث عن اضطراب ما طرأ على مجمل العلاقات بين الآلهة وتحول الى صراعات حافلة بالمؤامرات (وهو ما يمكن النظر إليه على ان تغيرا أجتماعيا مهمَّاً قد حدث مما غيّر من شكل العلاقات الإنسانية وبالتالي صورة العلاقات الإلهية القديمة المستقرة وأشاع الاضطراب فيها)، وقد أنقسمت الآلهة الى معسكرين وحسمت أمرها لخوض المعركة الكبرى، فكان الفريق الأول بقيادة تيامات (ويصفها طه باقر بالآلهة القديمة)، والفريق المقابل (والذي يصفه طه باقر بالجيل الجديد من الآلهة) كان محتاراً ومترددا حول القيادة، الى أن استقر الأمر الى اختيار (مردوخ) قائدا، والذي أشترط للتصدي لهذه المهمة الخطرة أن يُفَوّض سلطات مطلقة، فكان له ما أراد، واندلعت المعركة الكبرى بضراوة وشراسة.. وقد كانت النتيجة اندحاراً مأساوياً للإلهة تيامات ( المرأة )، وأنتصاراً ساحقاً للإله مردوخ (الرجل) الذي رتب أمور الأرض والسماء وفق رؤيته مستثمراً سلطاته التي خوّلت له. والطريف بالأمر أن قارئ الأسطورة سيجد تصوير المرأة (تيامات) بصورة سلبية ومعتمة ، فيما سيجد تصويراً أيجابياً وبهياً للرجل (مردوخ)، فعلاً أن التاريخ يكتبه المنتصرون!. إن الأسطورة تبين بجلاء ووضوح شديد بشكل أسطوري بداية العصر الذكوري والسيادة الذكورية والتفكير الذكوري في التاريخ. إنّ عهداً جديداً قد بدأ وما زال مستمراً حتى اليوم هو عهد سيادة الرجل، والفكر الذكوري وإن بدرجات متفاوتة، وقد بدأت في العصر الحديث سيادة الرجل بالتراجع تدريجياً مع أتجاه التطور البشري بأتجاه المجتمعات الصناعية الحديثة، وتطور الفكر السياسي وظهور فكرة المواطن وفكرة الفرد كوحدة أساسية في تكوين المجتمعات الحديثة، وليس العائلة البطرياركية التي تشكل الوحدة الأساسية في كافة المجتمعات (الزراعية) ما قبل الصناعية، فبدء نضال الحركات النسوية الحديثة بالبروز بتطوّر ونضج الأنظمة الأجتماعية الصناعية.

    والآن لنبحث الجانب الفكري للموضوع، ولنأخذ نموذجين معاصرين لنا أحدهما من ((الغرب)) أي المجتمعات الصناعية المتطورة، والآخر من منطقتنا ولنر كيف يتم التعاطي فيهما مع موضوع العلاقة الإنسانية بين الرجل والمرأة، ومدى سطوة الفكر الذكوري فيهما جوهرياً، رغم الأختلاف الشكلي بينهما. ولنأخذ جسد المرأة معياراً كثيمة وكيف يتم التعاطي معه. إن الثقافة ((الغربية)) في شرطها الصناعي الرأسمالي الذي حوّل كل شيء في المجتمع الى سلعة خاضعة للحساب العقلاني الكمّي الذي يلبي متطلبات السوق، ولم تنجُ منظمومة القيم والثقافة من هذا الخضوع لمعايير ومتطلبات العرض والطلب للسوق. ومنها الرؤية الذكورية للمرأة بأعتبارها جسدا موّظفاً للمتعة الحسية، فأخذ الخيال الذكوري بابتكار كل أشكال تداول هذه الموضوعة (جسد المرأة) بمنطق الربح والخسارة وفق متطلبات السوق. وكان أوضح أشكال هذا التعاطي في صناعة السينما والأعلان وحتى التعبيرات الفنية خضعت لهذا المنطق كما يتجلّى في الفنون التشكيلية والأدب. وكانت هذه التشيئة للمرأة ككائن إنساني مختزلاً في صورة (جسد جميل) قابل للتسويق. إذاً سُجنت المرأة وأختزلت في صورة (جسد) عارٍ لاعتبارات العرض والطلب للسوق. ولكن ذلك لم يمنع من تحقق أنجازات هائلة للمرأة (وهذا أيضا خضع لأعتبارات السوق) بعد ان تحولت الى فرد عامل في المجتمع فحازت الكثير من الحقوق الأجتماعية والسياسية .

   أما في منطقتنا والتي ما تزال الهيمنة للصيغة البطرياركية للوجود الأجتماعي، نظرا لضعف التطور الصناعي وخضوعها لمنطق السوق العالمية باعتبارها، إما منطقة أستهلاك رئيسية أو منطقة أنتاج للطاقة (النفط ، والمواد الأولية المعدنية أوالزراعية)، وفي المجمل تخضع لمنطق الأقتصاد الريعي والخدمي (خدمات التسويق والسياحة، أي غياب الأنتاج الصناعي الفعلي)، مما استتبع أن يكون الطلب على قوة العمل في أدنى مستوياته، والضحية الرئيسية لضعف الطلب على الطاقة البشرية هي المرأة، والنشاط الثقافي هنا يكمل ويعيد انتاج ذاته في هذا الاطار العام. وبقي القسم الأعظم من النساء حبيس البيت والعائلة أو عاملات في قطاعات أنتاجية تنتمي للأشكال البطرياركية (الزراعة)، أو أعمال الخدمات والسياحة، وكل ذلك على هامش الانتاج الصناعي الحديث. في هذا الشرط الاجتماعي لن يكون للمرأة الاّ دورها ((الطبيعي!)) للإنجاب والمتعة ولن يكون بمقدورها الارتقاء الى صفة الكائن الاجتماعي الذي يتمتع بالحقوق الإنسانية المماثلة للرجل، والإحتجاج بأن هناك نساء في مجتمعاتنا متعلمات وطبيبات ومهندسات وحتى سياسيات، لن يحجب الحقيقة الناصعة حول كم هو عدد النساء اللاتي يعملن خارج البيت والحقل؟ وما هي نسبة النساء العاملات المتعلمات قياساً للنساء (العاطلات إلاّ عن مهنة الإنجاب)؟ بالتأكيد الواقع هو الذي يجيب. هناك مقولة رائعة لشارل فورييه: ((إنّ درجة تحضّر المجتمعات يقاس بمدى تحرر المرأة فيها)). إن الشروط الموضوعية لوجود مجتمعاتنا يجعل منها مرتهنة للثقافة البطرياركية المتوارثة، ومن أهم تمظهراتها هو تعاطيها مع المرأة ليس ككائن يققف ندّا للرجل بل تابعاً وموضوع استحواذ وملكية خاصة. وكل من يمتلك ((شيئاً)) لابد من أن يحافظ عليه من السرقة والضياع. فنرى الرجل عندنا يسعى جاهداً للحفاظ على ما يملك، والمرأة من مقتنياته الأكثر قدرة على المراوغة و((المكر!)) بحكم كونها كائناً حياً وليس ((شيئاً)) فحسب، والحفاظ عليها أصعب بكثير من الحفاظ على الأشياء، فأبتكر أغرب ما يخطر في البال من أساليب إقصاء الجانب ((الحي)) لهذا ((الشيء)) العصيّ على لعب وظيفة الشيء فقط، ومن ابتكارات الخيال الذكوري لرجلنا لفلفلة وتغطية المرأة بـ((السواد)) ليس حفظاً لإنسانيتها، كما يدّعي، بل طمساً وقمعاً لهذا النزوع الذى قد يبديه هذا ((الشيء)) ليكون إنسانا لا شيئاً، وهذا ما اسمّيه ((الرياء الذكوري)). والرجل إذْ يقوم بذلك يمارس فعلاً لتشيئة المرأة ولا يراها إلاّ جسداً يقوم بوظيفته ((الطبيعية!)). إن تعرية المرأة في الثقافة ((الغربية)) وتغطيتها في ثقافتنا لا يختلفان الاّ في شكل التعاطي مع المرأة، وجوهرهما واحد وهو عدم الاعتراف بوجود حقيقي للمرأة ككائن إنساني يكافئ وجود الرجل وله نفس الحقوق، إلاّ أنه هناك محكوم بمنطق السوق الرأسمالي وهنا محكوم بمنطق الأنتاج ما قبل الصناعي والوجود الأجتماعي البطرياركي. هناك عرضة للتعرية وهنا مهدّد بالحجب!، والسبب واحد في الحالين، إنّه فعل انتهاك للكائن-الأنسان بالجسد-الشيء؟! وعدم أعترافٍ بالكائن وحقوق وجوده الخاص بعيداً عن هيمنة الرجل .

   وها نحن في عالم لم يصل بعد لنظام إجتماعي متطور يمارس فيه الجميع إنسانيتهم بشكل كامل بعيداً عن الخضوع لأي شكل من أشكال الهيمنة والاستغلال. وما الأعياد التي يُحتفى بها عالمياً، يوما من كل عام، للعامل وللمرأة وللطفل.. إلخ إلاّ دليل على أنّ فئات واسعة من البشر مازالت تعاني من الاستغلال والقهر، وإنّ أنظمتنا الاجتماعية ما زالت في دائرة الظلم والعنف. وأخيرا أتمنّى للجميع أياما كلها أعياد بلا رياء! 
   

الثلاثاء، 31 ديسمبر 2013

(2014) !!!


2014)!!!)


   هل تتكرّر في القرن الحادي والعشرين أحداث بدايات القرنين العشرين والتاسع عشر, لا يغيب عن الذهن تاريخ مثل 1914 أو 1814 الأول هو بداية حرب طاحنة مدمرة (الحرب العالمية الأولى) بين دول تمثل مصالح قوى إقتصادية متنافسة ومتصارعة إلى حد إزهاق ملايين الأرواح وتدمير مدن كثيرة. والتاريخ الثاني نهاية حروب أخرى طاحنة (الحروب النابليونية) بين نظام جديد بأفكاره وقيمه ينحو صوب الحداثة وبين أنظمة قديمة تريد الحفاظ على أنماط الحياة القديمة. والحربان خاضتهما أوربا الإقطاعية وهي تتجه صوب أوربا الرأسمالية، ولم يكتمل تشكّل أوربا الحديثة وتستقر، إلاّ بعد أن صفّت كل حساباتها مع أنظمتها وأنماط حياتها القديمة، بحرب أخرى هي الأفظع والأشرس في التاريخ (الحرب العالمية الثانية).
   لست ممن يعتقدون بصحة مقولة (لا جديد تحت الشمس!) ففي كل يوم، بل وفي كل ساعة، يضاف معطى جديد مما سينتج نتائج مختلفة، وعلى حد تعبير هيجل (ما كان لا يكون!)، ولكنني أرى جيداً أن البشرية لم تطوّر حتى اليوم آليات انتقال وتحول من القديم إلى الجديد بغير الحروب، فالتحوّل السلمي من حال قديم إلى حال جديد أمر لم يدركه البشر بعد!. ويبدو أن الحروب هي من طبيعة الأنظمة ومن صلب آليات التغيّر والتغيير ذاتها، فهي من نواتج وآثار المجتمعات الطبقية، والتاريخ (المدَّون) لم يعرف أنظمة حياة وتطوّر خارج هذا الأطار. والجديد الذي طرأ هو أن أوربا وما يسمّى بالعالم الغربي قد انتقلوا بصراعاتهم وحروبهم إلى مسارح وساحات منازلة أخرى خارج حدود بلدانهم السياسية. فكانت أفريقيا وأميركا الجنوبية وآسيا هي مسارح الحروب بعد الحرب العالمية الثانية، وأخذ مسرح الحروب في آسيا خاصة بالإنتقال تدريجياً من شرقها إلى غربها!. فمن حروب جنوب شرق آسيا مروراً  بوسطها عبر الهند وباكستان، ها هي اليوم تتركز في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، هذا المسرح الجديد (للحروب الجديدة) التي بدأت في منطقتنا منذ سبتمبر 2001 .
   هل العوامل الخارجية، إذاً، هي ما يشعل هذه الحروب في منطقتنا؟ هذا جزء من الحقيقة وليس الحقيقة كلها!. فالمنطقة تشهد تبلور وصعود قوى اقتصادية إقليمية متنافسة ومتناحرة إلى الحد الذي يمكن مقارنته بما حدث في أوربا خلال القرنين الماضيين من صراع بين قوى إقتصادية مثل بريطانيا وفرنسا وألمانيا.. ألخ. فالمتغيّر الجديد في المنطقة هو النمو الإقتصادي لقوى ودول إقليمية وصلت إلى مرحلة من النمو والتراكم الرأسمالي حتى درجة الصراع التناحري لبسط السيطرة والنفوذ على كامل المنطقة. فقوة اسرائيل الأقتصادية ذات الطابع التكنولوجي المتطور (وأزمة ديمقراطيتها التي طالما تغنّت بها تتجه نحو دولة دينية- مشروع يهودية دولة اسرائيل)، وقوة الصناعة التركية الناهضة (التي أغلقت أمامها السوق الأوربية)، وتراكم الرأسمال الريعي للدول المنتجة للطاقة (التي خسرت أموالاً طائلة خلال الأزمة الإقتصادية التي ضربت الولايات المتحدة منذ عام 2008 )، والقوة البشرية الديموغرافية المصرية (التي خسرت دورها كدولة رائدة في المنطقة بعد سياسة الإنفتاح في العقود الأخيرة)، ونزوع الإقتصاد الإيراني لنيل حصته من المكاسب بدعم القوة العسكرية.. فكل هذه القوى تعاني من مشاكل وأزمات داخلية وتهديدات تنافس خارجي أقليمي. إن هذه القوى الإقليمية لا تجد حلاً لمشاكلها وتطلعاتها وحسمها لصالحها بالطرق السياسية الدبلوماسية، فالتناقضات والصراعات فيما بين قواها الذاتية بمواجهة بعضها البعض وصلت حداً لا يسمح بالتعايش سلمياً، فالمجال الأقتصادي والسياسي بات أضيق من أن يتسع لهذه القوى النامية، وعادة ما تكون المجالات الأقتصادية والسياسية الحيوية ومناطق النفوذ عصيّة على القسمة على عدد كبير، فلابد من سقوط وانهيار عدد من القوى لكي يسود ويهيمن البعض الآخر.  لذا نرى أن هذه القوى قد دخلت في مرحلة اصطفافات واستقطابات ما قبل الصراع الدموي الطاحن، الذي سينفجر على شكل حروب لا تقل في بشاعتها وضراوتها عن حروب أوربا في القرنين الماضيين. وما يجري اليوم من حروب موضعية وحروب صغيرة ومحلية بالنيابة هنا وهناك، ما هي إلاّ مقدمات لمواجهة شاملة قادمة أكبر. مع التداخل مع عوامل دولية ليست بعيدة عن أزمات الأنظمة الرأسمالية العريقة وما تواجهه من مصاعب ومتاعب، جعلتها في عجز عن أن تكون هي المحدّد الحاسم لمجريات الصراع، تاركة زمام المبادرة للقوى الإقليمية، وهذا ما ظهر جليّاً مثلا في غياب التطابق التقليدي المعهود في المواقف بين الولايات المتحدة الأميركية وكل من السعودية وتركيا، مما انعكس ببروز اتجاهات ورؤى سياسية متباينة لهذه الأطراف حول صراعات وأحداث المنطقة. فالولايات المتحدة عبر إعلان اوباما بتحوّل الإستراتيجية الأميركية من الأطلسي إلى الهادي، قد رسم توجهات السياسات الأميركية المستقبلية وما تواجهه من تحديات هائلة متمثّلاً بالصعود السريع للإقتصاد الصيني، وما يمثّله من تحدٍّ مصيري للمصالح الإقتصادية الأميركية، يدفعها لتكريس جهدها الأستراتيجي لمعالجة هذا المنافس المهدّد، ممّا يفسح المجال للقوى الإقليمية للعب دور أكثر استقلالية لرسم سياسات المنطقة، مع عودة خجولة للدور الأوربي الذي غاب طويلاً عن المنطقة.
   لا عاقل أو إنسان طبيعي منزّه عن المطامع والمطامح يرغب بالحروب أو يدعو إليها، ولكنّها طبيعة المصالح التي تصل حد الإحتدام ولا تجد حلاً لأهوائها دون العنف والحرب، والتوقّع عادةً غير التمنّي ونادراً ما تتطابق التمنيات والتوقعات!. والمقدمات التي نراها حالياً في منطقتنا لا تبشّر إلاّ بحروب قادمة (والتي بدأت فعلا بنطاق محدود هنا وهناك)، هي التي سترسم وجه المنطقة لاحقاً وتحدّد خرائطه السياسية، وفق قاعدة الرابحين والخاسرين.. والتاريخ المعروف كله حتى اليوم لم يسلك سلوكاً سلمياً في حل مشاكله ونزاعاته، فهل سيقول التاريخ، اليوم، قولاً مختلفاً خالياً من العنف والحروب. وفي كل الأحوال تبقى الشعوب هي الخاسر الأكبر، والوقود الذي يحترق لتغذية ماكينات العنف والحرب، في ظلّ غياب وتراجع دورها السياسي المتمثّل بقوى سياسية مؤثرة تمثّل مصالحها بالرفاه والتقدم والسلام. هل سنحيا العام 2014 بتوجّس وترقّب ليمّر بخير وسلام أو...؟!

 

الاثنين، 4 نوفمبر 2013

رئيسان وراء القضبان! والشعب في الشوارع..



( بمناسبة مثول الرئيس السابق محمد مرسي أمام القضاء, أعيد هنا نشر هذا المقال المنشور في الحوار المتمدن.. بتاريخ   27/7/2013 )

إن التمييز بين الأبيض والأسود، وظيفة البصر الأساسية، أمّا قراءة الرمادي فهي مهمة البصيرة والعقل الجوهرية!. لم يحدث في تاريخنا (بما تسعفني به معلوماتي) أن كان هناك رئيسان، في الوقت نفسه، وراء القضبان، في أكبر دولة عربية. والأهم هو أنهما انتهيا إلى هذا المصير بقوة الإرادة الشعبية، وليس بمناورات أو مؤمرات خصومهم السياسيين فحسب. إننا هنا في ((لحظة)) فارقة من لحظات الوعي لدى الإنسان، لحظة تطور نوعي وانتقال جذري في الوعي. لقد حُبس العقل وحُجِر عليه في تاريخنا وثقافتنا طويلا في قفص اسمه ((الإجماع)) وعدم الخروج على الحاكم و((النص))، وهي بنية ذهنية تلائم كثيرا الشعوب التي يُنظر إليها، وتنظر إلى نفسها، باعتبارها ((رعايا)) وليس كمواطنين في دولة حديثة، خاضعة لنخب سياسية وفكرية هي التي لها حق التقرير والتفكير ((أهل العقد والحل)). هذا الخروج الجماعي للأفراد بمصر يؤرخ عصرا مجيدا لإنسان منطقتنا وتطورا نوعيا لوعيه بضرورة المشاركة في قضايا الشأن العام، وعدم ترك الأمور وتصريفها لنخبة أو قائد.

نعم انها لحظة شديدة التعقيد والالتباس وتصاحبها الكثير من التضحيات والدماء، وما ذلك إلاّ لأنّ المجتمعات لم تتوصل بعد إلى آليات تطوّر خارج إطار المآساة! ولأنّ تصفية الحساب مع الماضي (والأحزاب الدينية هي خير ممثل للماضي) هذه المرة جذرية. إن قيم الحداثة والدولة الحديثة في منطقتنا كانت تتم لحد الآن بصورة نخبوية، وها أن الأفراد يكتشفون كم كان هذا مكلّفا ومخيّبا للآمال، ما أن نتقدم خطوة حتى ننكص خطوات. ولكن لماذا مصر؟ ان العامل الديموغرافي المهم الذي بات فيه الشباب يمثلون أغلبية المجتمع هو من أهم العوامل التي تساهم في حدث اليوم. 

إن التحالف الحالي بين الجيش وأوسع الفئات الاجتماعية وخاصة الشباب ضد القوى الماضوية ليس اعتباطيا في هذه المرحلة. فمؤسسة الجيش (بمفهومها الحديث) هي من مؤسسات الدولة الحديثة، فيما الأحزاب الدينية بفكرها الماضوي المنتمي إلى الماضي لا ترى في الجيش إلاّ تلك المؤسسة المنتمية إلى دول القرون الوسطى، عندما كانت الجيوش إقطاعا للأمراء (أمراء الحرب) التي تسند سلطة قروسطية انقضى اوانها، فالجيش اليوم ليس جيش (أمراء) بل جيش (جنرالات)! وعلاقته بالدولة تختلف كليا عن دور الجيوش القديمة. فالحاكم القديم كان يقطع (أمراء) جيشه اقطاعاتهم ويمنحهم مزاياهم، أما الدولة الحديثة فمحكومة بقوانين أخرى وتراتبيات مختلفة ومنها مؤسسة الجيش. هذا ما لم ولن تفهمه الأحزاب الدينية بحكم ايديولوجيتها المتخلفة عن قوانين العصر الحديث ومتغيراته، حيث تقف مذهولة أمام هذا التحالف الواسع الذي نهض ضدها، وهذا ما يمكن أن يدفعها إلى ارتكاب حماقات كارثية، ولن تنسحب من المشهد إلاّ وقد كبّدت مجتمعاتها أثمانا باهظة، وأنهارا من الدم.

وأخيرا هل يعني هذا أن لا تناقضات بين (الجنرالات) والقوى المدنية في المجتمع؟ بالتأكيد إنها منتهى السذاجة لو تم النظر إلى الأمور بهذا الشكل. فالتناقضات موجودة وكثيرة، ولكنها محتجبة اليوم وراء محور الصراع والتناقض الرئيسي، وما أن ينتهي حسم الصراع الحالي، حتى ستتضح التناقضات بين الرؤية التقليدية ل(الجنرالات)، وبين الرؤية العصرية الطموحة لفئات الشعب وأهمها هي فئة الشباب. ولكن ليس من الإعتبارات الموضوعية أو (البريئة!) في المرحلة الحالية من الصراع، التنديد بالجيش وما قام به من تحرك، والتخويف منه وتصويره على أنه (انقلاب)، مادامت مؤسسة الجيش تسهم حاليا في الصراع متحالفة مع قوى التقدم ضد قوى التخلف والظلام. ولا خوف ابدا بعد اليوم على شعب تعلم أفراده أن يغادروا حالة (الرعايا)، إلى المطالبة بكون جميع أفراد الشعب (مواطنين)، سواء كانوا حكاما أو محكومين. ودليل حيوية ووعي هذا الشعب أنه قد أرسل إثنين من رؤوسائه إلى وراء القضبان وبوقت قياسي!!! أن شعبا كهذا سيكون قادرا حتما أن يوضّح ل(جنرالاته) حدودهم ويكبح طموحاتهم، أيضاً، ويضع حدا لتجاوزهم إن بدر منهم تجاوز ما في المستقبل! 

فالأفراد الذين خرجوا على ((النص)) لن يعودوا إلى أقفاصهم بعد اليوم. إنّ الشعب بوعيه يرتقي اليوم درجة نوعية، والحكّام والنخب يهبطون درجات!

الخميس، 5 سبتمبر 2013

مشروع الخراب الكبير


((مشروع الخراب الكبير))

من مناطق النفوذ إلى مناطق الأستثمار المباشر!
*******************************
   مشروع الشرق الأوسط الكبير، هو ترتيبات جديدة للمنطقة ينسخ ترتيبات ((سايكس– بيكو))، التي صاغت المنطقة كمناطق نفوذ وفق نموذج ((الدولة الوطنية)), واللذي قادته بريطانيا العظمى وفرنسا بصورة أساسية, حيث كانتا تتصدران السيطرة والتحكم بالمنطقة, في عالم ما بعد الحرب العالمية الأولى. بعد الحرب العالمية الثانية وبعد ما تعرضت له الدول المشاركة فيها من انهاك وما تكبدته من خسائر، وتنامي الوعي الوطني التحرري في الدول المتشكلة حديثاً، وبروز ((حركات التحرر الوطني)) مدعومة من المنظومة السوفييتة والأشتراكية السابقة, دخلت تحويرات جوهرية على هذا النموذج, تمثل في محاولة استكمال الأستقلال وتأكيد السيادة الوطنية. لكن القوى السياسية التي قادت تلك المرحلة لم تستطع النهوض بهذه المهمة بشكل ناجز, لأبتعادها عن المنهج الجذري الذي يحررها فعلياً على الصعيد الاقتصادي والاجتماعي, حيث ظلت تابعة أقتصاديا وثقافيا للمراكز التي رسمت خرائط ((سايكس- بيكو)), مما أفقد دول المنطقة فرصتها التاريخية لبناء وتحديث مجتمعاتها بالشكل الحداثي الكامل فظلت في منطقة ((المابين)) نموذجا واضحا للحداثة الهشة، والذي تجلى سياسيا في صيغة حركة عدم الانحياز. وظلّ الأمر كذلك طيلة الحقبة التي اصطلح على تسميتها بالحرب الباردة، وعقب انتهاء هذه الحقبة برز دور الولايات المتحدة الأميركية, كقوة مهيمنة وحيدة في العالم, مما استتبع ضرورة صياغة ترتيبات جديدة وفق رؤية جديدة, تبلور بقيام نظام دولي جديد, ترافق مع السياسات الاقتصادية الجديدة التي اقترنت باسمي ريغان- تاتشر. حيث أطلق العنان للشركات الكبرى للأفلات من الأعباء المكلفة بتنازلها عن جزء من ارباحها لتمويل دول ((الرفاه))، فشرعت الرساميل بالتملص من حدود الدولة الوطنية، واللجوء إلى ما بات يُعرف بـ((الملاذات الضريبية)) التي هي في حقيقتها ملاذات لاضريبية. والبحث عن مناطق أستثمار غير خاضعة لشروط دولة الرفاه التي تحققت وترسّخت عبر نضال طويل في الدول الصناعية المتقدمة.

   للمرء أن يتمنى ما يتمنى, ولكن ليس عليه أن يتوقع إلاّ وفق الأستدلال العقلي. فتجار الدم وصعاليك الفكر ماضون، وبحزم, بفوضاهم الخلاقة, في تأثيث بلداننا لكي تصبح ((بيئة صالحة للأستثمار))! وفق الشروط التي تحقق للرساميل المهاجرة من المراكز الصناعية التقليدية, اقصى قدر من الأرباح على حساب البنى التحتية للمناطق التي تحلّ فيها, وباستنفاذ قوة العمل البشرية بشروط عمل تعود إلى بدايات صعود النظام الراسمالي, أي باستخلاص أقصى فائض من عمليات الأنتاج على حساب مستوى معيشة متدني وغير لائق بالحياة الحديثة للعاملين.

   إن العالم اليوم في طريقه, بحكم سيطرة وسطوة الشركات الكبرى, إلى تقويض الدول الوطنية الرخوة في المناطق التي لم تشهد تحولات تنموية حقيقية, إنْ على المستوى الأقتصادي أو الأجتماعي وتخلف الوعي العلمي والثقافي الحديث للأفراد, مما يجعل هذه المناطق عرضة للأضطرابات والصراعات العنيفة, بعد أن تزعزعت أقتصاداتها المحلية الطبيعية بحكم ارتباطها بالأقتصاد الصناعي المتقدم. هذا الأمر خلّف قوة عمل معطلة ومتكدسة في المدن, وقد تحولت إلى جيوش احتياطية للصراعات والنزاعات الأهلية, مادام هناك من يموّل هذه النشاطات ويغذّيها مالياً وأيديولوجياً ويمدها بالسلاح والتدريب. إن النواة الصلبة لكل دولة بالمعنى الحديث هي المؤسسات المحتكرة لوسائل العنف, من جيش وشرطة وقوى أمنية, وعندما يتم منافسة هذه المؤسسات التقليدية, بجماعات مسلحة ومليشيات (أي ما يشبه خصصة مؤسسات العنف التقليدية) ممولة جيداً وتعمل بغطاء فكري وايديولوجي متعصب وضيق, فأن دولة بهذا الوضع ماضية بلا ريب إلى الأنهيار، وأعادة تشكيلها وصياغتها وفق رؤى جديدة. هي على الأغلب خلق كيانات ما دون الدولة, وبأيديولوجيات إثنية وعرقية ودينية ومذهبية ضيقة, تجعل من هذه الكيانات الجديدة في وضع أضعف بكثير من دولة وطنية مركزية متحكمة بكل النشاطات الأقتصادية والأجتماعية, مما يجعلها في وضع قابل للأحتواء والتحكم من قبل الشركات الكبرى, التي تمنّي نفسها باستثمار طويل الأمد في هذه المنطقة الثرية بالطاقة وبالقوى البشرية.

   وهنا يكون العائق الأكبر لتحقيق هذا, هو مدى قوة وتماسك المؤسسات التقليدية للدولة, فكلما كانت قوية اكثر زادت فرص أستمرار الصراع لفترات زمنية طويلة. وقد كان الفرق واضحا في الحالة الليبية التي لم تستغرق زمنا طويلا, والحالة السورية حيث يمتد ويطول الصراع. وفي كل الحالات لا يحسم الأمر سوى تدخل عسكري خارجي. إنّ إطالة الصراع في سوريا كان نتيجة التوجس من هيمنة جماعات متطرفة وخارجة عن السيطرة في الحالات التي سبقتها. مما جعل الدول الكبرى تعزف عن حسم الأمر سريعاً, فأطالة الصراع يؤدي إلى نتيجة أكيدة, وهي أنهاك وأضعاف كافة أطراف الصراع, ويحولها إلى قوى ضعيفة ومنهكة حتى لو تسلمت السلطة في هذه البلدان, مما يسهّل السيطرة والتحكم بها لاحقاً. أما الأسراع حدّ التعجل في الحالة السورية مؤخراً, جاء نتيجة تطور غير محسوب وغير متحكم به في المنطقة, مما بدا وكأنه تهديد جدي وخطير لمشروع الشرق الأوسط الكبير الأميركي في المنطقة. هذا التطور تمثّل بتدخل مؤسسة عريقة وقوية, هي الجيش المصري, لانهاء سلطة ((الأخوان المسلمين)) بمصر, فلو تُركت أمور المنطقة لحالها فأن تأثير هذا التطور سيكون دافعا وحافزا قويا لدول المنطقة لأجهاض مشروع الشرق الأوسط الكبير. ((هكذا نفهم تلك الحركة الدؤوبة والرسل والرسائل التي باتت تنهال على مصر بعد تحركها الأخير ضد سلطة ((الاخوان المسلمين))، وهو التحرك الذي أربك الاستراتيجية الاميركية وأحرج ترتيباتها لتحقيق مشروع ((الشرق الاوسط الكبير)). وللمرء أنْ يتوقع عدم استسلام الادارة الاميركية لهذا التعثر الذي أصاب جهودها في المنطقة، وليس مستغربا أن تلجأ إلى سياسة البدائل المتاحة لهذه الخسارة التي منيت بها بمصر، والجبهة المرشحة لتعويض هذه الخسارة هي سوريا التي سيجري الضغط عليها ومحاولة احراز انجاز ما فيها، وهنا ستتجه نحو خيار الانخراط مباشرة عسكريا في الصراع الدائر هناك)) (1). والتطور الآخر كان احراز النظام السوري, مؤخرا, لمكاسب على الأرض باتجاه حسم الصراع لصالحه, وهذا ما يجعل مصممي مشروع الشرق الأوسط الكبير في مأزق حقيقي, فخسارة مصر ثم سوربا يمثل أخفاقا كاملا لمشروعهم, فكان لابد من التحرك سريعا والذهاب إلى قرار التدخل العسكري المباشر في الصراع السوري.

  إن التعجل الأميركي والقرار الذي أعلنه أوباما أخيراً بتوجيه ضربة ((محدودة!)) للنظام السوري, وكأن قرارات الحرب خاضعة للتحكم والسيطرة, فكم من تدخل وتحرك محدود أفضى إلى صراع طويل وواسع, سيؤدي إلى تداعيات بالغة الخطورة في المنطقة من الصعب التنبؤ بعواقبها ونتائجها. بالكلمات التالية التي صفق لها البعض كثيرا, واحتفى بها الكثيرون وكأن تغيير الرؤساء في البلدان الكبرى سيؤدي إلى تغيير السياسات الأساسية والجوهرية وإغفال حسابات المصالح، في خطاب القاهرة الشهير للرئيس الأميركي أوباما بتاريخ الرابع من يونيو 2009 تحت عنوان (بداية جديدة)- A New Beginning))، قال أوباما: ((أسمحو لي أيضا أن أتطرق إلى موضوع العراق. لقد اختلف الوضع هناك عن الوضع في أفغانستان حيث وقع القرار بحرب العراق بصفة اختيارية مما أثار خلافات شديدة سواء في بلدي أو في الخارج. ورغم اعتقادي بأن الشعب العراقي في نهاية المطاف هو الطرف الكاسب في معادلة التخلص من الطاغية صدام حسين إلا أنني أعتقد أيضا أن أحداث العراق قد ذكرت أمريكا بضرورة استخدام الدبلوماسية لتسوية مشاكلنا كلما كان ذلك ممكنا. وفي الحقيقة فأننا نستذكر كلمات أحد كبار رؤساننا توماس جيفرسون الذي قال "أنني أتمنى أن تنمو حكمتنا بقدر ما تنمو قوتنا وأن تعلمنا هذه الحكمة درسا مفاده أن القوة ستزداد عظمة كلما قل استخدامها" ... اسمحوا لي أن أتحدث بوضوح واقول ما يلي.. لا يمكن لأية دولة ولا ينبغي على أية دولة أن تفرض نظاما للحكم على أية دولة أخرى. ))!!! ولكن الحكمة تفر, دائما, عندما تحضر المصلحة. فهل انصت الرئيس لصوت الحكمة؟ وهل التزم بما قاله ووعد به؟ إن وعود الرؤساء الأخلاقية, غالبا, ما يتم نقضها عند ممارسة السلطة. فالرئيس أوباما في يوم السبت 31/8/2013 قال إنه "سوف يسعى للحصول على تفويض من ممثلي الشعب الأميركي في الكونغرس قبل توجيه ضربة عسكرية لسوريا", وأوضح أوباما أن المسألة ستطرح للنقاش والتصويت في الكونغرس, قبل إقرار " ضربة لن تكون مفتوحة أو طويلة الأمد ولن تشارك بها قوات برية".

   كلما نظرت إلى هذا العالم بصراعاته الدامية ومآسيه, وتأملت في أقوال وأفعال من يحكمونه ويديرون شؤون شعوبه بكثير من الأستخفاف  واللامبالاة بمصائر البشر وآلامهم، تذكرت كلمات الشاعر سان جون بيرس: (( وكان الشرف يتهرّب من أنصع الجباه شهرة ))!

       5/9/2013                                                 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نبيل محمود, البحث عن البطل!, الحوار المتمدن العدد 4197– 27/8/2013         http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=375198

                                                   

الأربعاء، 28 أغسطس 2013

البحث عن البطل !


البحث عن البطل !

اندريا: ويل للأمة التي لا أبطال فيها !
جالليو: لا ! الويل للأمة التي في حاجة إلى أبطال.
(برتولد بريشت، مسرحية حياة جالليو)

   التطلّع إلى بطل ظاهرة ترتبط بالمجتمعات التي لم تتطور فيها الشروط المادية والموضوعية للحياة الحديثة، لكي يتمتع أفراده بمستوى معين من الوعي والاستقلال الذاتي! فيفتقرون إلى ما يجعلهم يشعرون بأنهم مسؤولون ومتحكّمون بحيواتهم ومصائرهم وأقدارهم، ومستقلون إلى الحد الذي يجعلهم في غنى عن التماس الرعاية والوصاية من زعيم أو قائد.. الخ (بطل)، يحقق لهم ما هم عاجزون عن تحقيقه لأنفسهم وبأنفسهم. هذه الظاهرة رافقت معظم المجتمعات الأبوية ما قبل الحديثة، أي تلك المجتمعات التي لم تنتقل إلى مرحلة الصناعة الحديثة الواسعة ولم تدرك أفكار وقيم ما أصطلح عليه بـ ((الحداثة)). يمكن لأفراد هذه المجتمعات أن يرتضوا بفرد منهم للقيام بأعباء تصريف شؤونهم العامة، وتقرير مصائرهم، وأحيانا يتلهفون! فيطلبونه ويسمونه بطلاً ومنقذاً ومخلّصاً، وبقدر ما يسبغون عليه من صفات تقترب من القداسة في أكثر الأحيان، فانهم يُفقرون ذواتهم وينزلونها منزلة (الرعية) التي تلهث وراء (راعٍ) ليرعاها!. ولكن هل أن مجتمعاً كهذا يستحق تسمية مجتمع بالمعنى الحديث للمجتمعات؟ إن المجتمعات الحديثة (وهي التي انتقلت من النمط الاقطاعي- الزراعي إلى النمط الرأسمالي- الصناعي للانتاج) بشكلها النموذجي الاوربي الكلاسيكي وما تبعها من مجتمعات في باقي المناطق.

   ترافق هذا الانتقال بتغيّر شكل العلاقة السياسية  والحقوقية بين الافراد حكاماً ومحكومين في إطار (الدولة – الامة) التي تحكمها صيغة دولة القانون. فكان ظهور فكرة (المواطن) والمساواة أمام القانون (على الأقل نظرياً)، وتراجع فكرة (الراعي والرعية)، وكان هذا هو الانجاز الابرز على الصعيد الفكري والسياسي للثقافة البورجوازية. فقد صار الانسان ((حرا)) قانونيا وهو من اهم شروط ومتطلبات المجتمعات الصناعية الحديثة لتحرير الفلاح والحرفي من الروابط الشخصية التي كانت تربطه بالارض والاقطاعي وصاحب العمل، للانخراط في عملية الانتاج الصناعي الرأسمالي. و كان من ابرز من تغنّى بهذا الانجاز التاريخي في بدايته وطوره التقدمي الصاعد (وعلى العكس مما يتصور الكثيرون) هو الناقد الجذري الاكبر للرأسمالية، كارل ماركس على اساس ان هذا التطور خطوة تاريخية متقدمة للانتقال والتحول من النمط الاقطاعي إلى النمط الرأسمالي.

   فهل يحق للأفراد الذين يستدعون الحاكم (البطل) أن يناقضوا انفسهم؟! حينما يخلطون هذه الدعوة مع رفع شعارات تطالب بمفاهيم حديثة مثل الحريات المدنية وشروط حياة عصرية، من أسسها الاولى نقض الافكار والمبادئ للمجتمعات الزراعية الأبوية وتراتبياتها وبنيتها الفكرية وأيديولوجيتها وقيمها..الخ. إن تناقضا صارخا بات يسم الخطاب الفكري والسياسي للحراك الذي جرى ويجري في المنطقة. وهذا التناقض صار واضحا جدا في (ظاهرة الربيع العربي) وما تعانيه من مآزق وعدم وضوح في المبادئ والمنهج والاسس الفلسفية التي اختلط فيها الحداثي بالأصولي بشكل يثير الرثاء. أن التشوش الفكري والتداخلات الأقليمية والدولية الذي رافق هذه الظاهرة هو الذي جعلها تنزلق إلى المصير الذي انتهت إليه في العديد من البلدان. ((ان القوى التي تسلمت السلطة السياسية بات واضحا انها تسعى للهيمنة على مؤسسات الدولة واحدة تلو الأخرى ويبدو ان المؤسسة العسكرية من اهم الأهداف التي يجب السيطرة عليها باعتبارها الهدف الأخير لكل هيمنة سياسية فمن يضع يده عليها يكون قد احكم هيمنته وسيطرته على الدولة والمجتمع كليا..... ان المعركة الان باتت معركة ((الهيمنة)) مهما بدا ان المؤسسة العسكرية تطرح نفسها كعامل ((حيادي)) في الصراع وهي تريد ترتيب الأوضاع السياسية وفق الرؤية التقليدية.))(1). هذا ما تفجر بمصر مؤخراً (وتلوح ملامح مسار مماثل بتونس)، فالحراك الثوري الذي انتهى بتصدّر قوى سياسية رجعية المشهد السياسي وتسلّم السلطة، يتم الآن التخلص منه مع دعوات باتت صريحة لاستدعاء (البطل) لانقاذ (الربيع العربي) من المأزق الذي انتهى إليه، فما عدا مما بدا! إن استحضار دورالرئيس الراحل جمال عبد الناصر بمصر ومحاولة استعادة تجربة تاريخية مختلفة في السياق الذي حدثت فيه، ومحاولة استنساخها في الوقت الحاضر المختلف كليا، محليا واقليميا ودوليا، يذكرني كل هذا بكتاب ماركس ( الثامن عشر من برومير لويس بونابرت)، فهل المسار يمضي من جنرال ((مأساة)) إلى جنرال ((ملهاة))؟! وفي واحدة من استبصارات هيغل الفلسفية اللامعة يقول ((..أنّ الآن إنّما هو على الحصر هذا: لم يعد الآن من حيث هو يكون..... لكن الذي كان لا يكونُ... ))(2)، وإن كان فسيكون على شكل ((مسخرة)) على حد تعبير ماركس.

   ما أسهل التمنّي وما أصعب التوقّع! انّ الأزمة في منطقتنا أعمق من أن تحلّها النوايا الطيبة والتمنيات، فالأزمة أزمة بنيوية عميقة ومترسّخة في أعماق الأسس الوجودية لمجتمعاتنا، تبدأ بالأقتصاد ولا تنتهي بالثقافة، فهي متداخلة ومتشابكة مع مجمل أزمات عالمنا المعاصر وعلاقاتنا التي لا فكاك منها مع العالم والعوامل التي تحكمه وتحكمنا، شئنا أم أبينا. إن ارتباط دولنا بالأقتصاد العالمي وخضوعها لشروط التقسيم الدولي للعمل، جعلها إمّا مصدرا للمواد الخام (وأهمها اليوم هي الطاقة من نفط وغاز) وسوقاً واسعة للمنتجات الصناعية لمصانع العالم، أو منتجة للخدمات وخاصة السياحية. وهذا الارتباط بالأقتصاد العالمي الصناعي كان من أهم آثاره تدمير الأقتصادات الطبيعية المحلية، خاصة الزراعية (( وهذا الذي نحياه اليوم يذكرنا بالفشل الذريع الذي آلت إليه هذه السياسة السلطوية لأنظمة الحكم التي تصدرت الحياة السياسية على امتداد القرن العشرين. وفشلها الأكبر كان الإخفاق في تحقيق الحداثة الحقيقية لمجتمعاتنا، فقد اكتفت بـ (حداثة هشة) نخبوية في مراكز المدن، التي كانت جزراً منعزلة وسط محيط من التخلف الذي لم يُحدّث. وما أن ارتبطت الاقتصادات المحلية بالنظام الرأسمالي العالمي حتى تبدّدت مستسلمة لمنطق السوق، فهُجرت الحقول وتوالت أفواج المهاجرين من الريف إلى المدن، حتى أغرقت المدن (جزر الحداثة الهشة) واستدعت كل القيم الماضوية من أعراف قبلية وتصورات دينية ضيقة ومتعصبة، ولم تصمد المدن طويلاً بل سقطت ونكصت على أعقابها إلى ما قبل ما ظنته حداثة حقيقية ازدهرت ذات يوم ولن تهزم. وزاد الأمر سوءا تحول اقتصادات معظم دول المنطقة إلى اقتصادات ريعية، تنتج مصادر الطاقة للأقتصاد العالمي، أو خدمات التسويق لمنتجات الشركات الكبرى، أو خدمات سياحية (بمختلف أشكالها وألوانها!). فلم تجد الجموع المهاجرة من الريف التي هجرت حقولها، عملاً منتجاً حقيقياً كالمصانع. فباتت تهيم في المدن تنتظر الفتات من الأقتصاد الريعي الذي تقبض عليه السلطةالسياسية (كموظفين وملحقين غير منتجين بالجهاز الحكومي للدولة). وهذا هو الأصل والمحرك الاقتصادي لكل الشموليات التي شهدتها وتشهدها دولنا. ))(3)

   إن الأساس الموضوعي لما يجري في المنطقة هو هلامية القوى الأجتماعية، بحكم افتقاد المنطقة إلى إنتاج حقيقي وخضوعها لشروط الأقتصاد الريعي والخدمي والأستهلاكي. إن هذه الكتلة البشرية الهائلة والهائمة والمقصية عن موقع واضح لها في عملية (إنتاج) فعلي، والذي هو في حقيقته (اللاإنتاج)، قوة العمل المعطلة هذه يصعب تحديدها أجتماعيا لأنها خارج سياق أي نشاط أقتصادي محدد ومعروف. وبالتالي يصعب كذلك تحديد نشاطها وحراكها الثوري، ومثلما هي قوة عمل معطلة وصعبة التحديد أجتماعياً، كذلك هي طاقة ثورية ممتنعة على التعريف وفق مصطلحات ومفاهيم السياسة الحديثة، وخاصة ما يدخل منها في سياق التحركات والأنتفاضات الثورية. وهذا يجعلها تمضي في مآلات غير واضحة أو محددة ولا تحقق أهدافها التي أعلنتها وهبّت لتنفيذها نظراً لتشتتها وانعدام وضوح الرؤية ومركز قرار يحدد أولويات عملها. من هنا ليس لنا إن نستغرب إذا ما صادفنا تعبيراً ملتبساً مثل الذي جاء به الأستاذ يوسف زيدان ((فقه الثورة))، ان ظهور مفاهيم كهذه ذات دلالة كبيرة في مغزاها تؤشر مدى الارباك الذي يواجه الفكر في تعاطيه مع واقع اقتصادي واجتماعي غير محدد الملامح في مجتمعات اختلطت فيها طرائق الحياة وتشوشت وتداخل فيها القديم والحديث بشكل مربك. فمصطلح ((فقه)) ينتمي إلى منظومة فكرية وأيديولوجية وقيمية قديمة هي من منتجات مجتمعات أبوية ما قبل صناعية (نشاطها الاقتصادي الغالب هو الزراعي)، ومصطلح ((الثورة)) بمفهومها الحديث ينتمي إلى منظومة فكرية وأيديولوجية وقيمية حديثة ومختلفة  (نشاطها الاقتصادي الغالب هو الصناعي)، ومجتمع يتم تحديد طبقاته وفئاته وقواه الاجتماعية طبقا لموقعها من الانتاج بوضوح كبير، مما ينعكس وضوحا فكريا ومفهوميا في تناول الظواهر الاجتماعية. من هنا ندرك مدى الارباك والارتباك الذي يجابه الفكر، والذي هو في حقيقته انعكاس لاختلاط الواقع الاقتصادي والاجتماعي، الذي يتجاور فيه الحديث والقديم بشكل يسبب دوارا ويشل قدرة العقل على التحليل في ظل غياب المفاهيم التي تتعامل مع ظواهر هذا الواقع الملتبس. فيمتزج ((العلمي)) بـ ((الغيبي)) ما يمثل مفارقة كبيرة، إنْ على مستوى الممارسة أو النظرية، في معالجة المشاكل الاجتماعية والسياسية، وقد تجسد هذا عملياً في تسنم قوى محافظة ورجعية لزمام الممارسة والسلطة في الدول التي شهدت (ظاهرة الربيع العربي)، مجهضة بذلك حركات الأحتجاج ومبددة الطاقات الثورية التي حركتها في البداية. وكل ذلك ليس بمعزل عن القوى الاقليمية والدولية (( فحقيقة السياسات العالمية وخاصة الإدارة الأميركية أنها قد انتهجت استراتيجية جديدة في المنطقة وانتقلت من سياسة احتواء الحكام الى سياسة احتواء الثورات ؟! وهذا ما نجحت فيه. فالتخلي عن حاكم تقليدي حليف لا يعني التخلي عن المصالح بل هو تكييف للسياسات وفق المتغيرات التي تشهدها المنطقة والامساك بمسارات التغيير والتحكم به من خلال التحالفات مع الأنظمة والقوى المحافظة في المنطقة وضمان اكيد لهذه المصالح بدل الوقوف ضد التحركات الجماهيرية الاحتجاجية ))(4)

   هكذا نفهم تلك الحركة الدؤوبة والرسل والرسائل التي باتت تنهال على مصر بعد تحركها الأخير ضد سلطة (( الاخوان المسلمين))، وهو التحرك الذي أربك الاستراتيجية الاميركية وأحرج ترتيباتها لتحقيق مشروع ((الشرق الاوسط الكبير)). وللمرء أنْ يتوقع عدم استسلام الادارة الاميركية لهذا التعثر الذي أصاب جهودها في المنطقة، وليس مستغربا أن تلجأ إلى سياسة البدائل المتاحة لهذه الخسارة التي منيت بها بمصر، والجبهة المرشحة لتعويض هذه الخسارة هي سوريا التي سيجري الضغط عليها ومحاولة احراز انجاز ما فيها، وهنا ستتجه نحو خيار الانخراط مباشرة عسكريا في الصراع الدائر هناك. ومحاولة احتواء التطور على الساحة المصرية لجعل تطور الاحداث فيها لا يبتعد كثيرا عن المسار الذي تحاول ترتيبه في المنطقة. بات من الواضح ان القوى الاقتصادية الكبرى والشركات المتعددة الجنسيات اخذت تنظر إلى المنطقة ليس وفق الخرائط السياسية التي ترتبت وفق ((سايكس- بيكو))، بل وفق ((مناطق ثروة)) وكمجال حيوي لاستثمار اقتصادي طويل الامد، تحت غطاء كيانات عرقية وأثنية، خارج إطار ((الدولة الوطنية)) المركزية القوية التي تقبض على مقاليد التحكم المركزي بالنشاط الاقتصادي، فتنصب كل الجهود اليوم من أجل القضاء عليها تمهيدا للاستثمار المباشر من قبل هذه الشركات وبالاتفاق مع زعماء محليين، مما يسهل فرض شروط تحقق اكبر المكاسب والارباح لهذه الشركات. وهكذا بدأت تباشير تفتيت الكيانات السياسية السابقة (كما حدث في السودان مثلا بشكل قانوني معترف به دوليا)، وتلك الانقسامات العرقية والدينية والمذهبية والقبلية على ارض الواقع تمهيدا لتكريسها مستقبلا بأطر سياسية معترف بها. ولا يذهبن الظن أن ما يجري يندرج تحت صيغة نظرية المؤامرة، بل هي استراتيجية وتخطيط بعيد المدى تم الاعلان عنه علنا والترويج له في مناسبات عديدة، فما يندرج تحت عنوان نظرية المؤامرة شرط تنفيذه الاساسي هو سريته، والذي نلمسه فيما يجري يتم في وضح النهار وتوظف له جهود سياسية وعسكرية واعلامية هائلة. والفرق كبير جدا بين استراتيجية يجري تنفيذها على مدى زمني طويل، وبين مؤامرة يتم الاعداد لها سرا وتنفذ بشكل مباغت ومفاجئ.

   إذن ما علاقة كل ذلك بموضوعنا الأساسي (البحث عن البطل)، أن الشروط الموضوعية للحراك الثوري غير قادرة لإحداث الانتقال المرغوب فيه إلى تشكيلة اقتصادية اجتماعية حديثة، بسبب دمار الاقتصادات الطبيعية المحلية، والقوى الاقتصادية المحلية على الاغلب تمارس انشطة اقتصادية مكملة أو تسويقية أو خدمية للشركات العالمية الكبرى، والدولة تمضي إلى الضعف والهزال والتخلي عن ادوارها الاقتصادية. وكل ذلك يجعل القوى الاجتماعية عائمة وهائمة وقوة عمل معطلة، مما ينعكس سلبا على أي دور ثوري يمكن ان تقوم به. وتبقى فئات الشباب المتأثر بافكار التقدم والتطلع الى حياة عصرية بحكم احتكاكها الدائم بالعالم المتقدم بواسطة وسائل التواصل الحديثة، ولكنها تفتقر للخبرة والقدرة على التجمع والتنظيم. وإن حدث وعبّئت قطاعات اخرى من الشعب لفترة من الزمن فلن تسعفها المطاولة وافتقارها الى النفس الطويل والخبرات الكافية، أمام محترفي السياسة المخضرمين والمرتبطين بالمصالح المالية المحلية والاقليمية والدولية، والذين سرعان ما سينهكون فئات الشباب بمناوراتهم والاعيبهم ويبددون الطاقة الثورية في مسارات مشتتة مما يفقد الزخم الثوري قدرته واستمراريته، فيحل الاحباط واليأس محل الحماسة الثورية. وكذلك ضعف التنظيمات المهنية أو خضوعها لقوى تقليدية، وتهافت ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني. كل هذه العوامل يضاف اليه عامل اخر مهم الا وهو اعتماد نسبة كبيرة من افراد المجتمع في تحصيل اسباب عيشهم على نشاطات اقتصادية يومية على الاغلب فردية وخدمية يصعب معها اقناعهم بان التغيير سيعود عليهم بالنفع لاحقا، مما يجعلهم غالبا في الصف المضاد لأي تحرك احتجاجي يعطل مصالحهم اليومية. وقد يصل الامر بهذه الفئات حد الوقوف موقفا معاديا صريحا من اي حراك ثوري. ويكونون هم في اول الصفوف المطالبة بـ (بطل) يؤمن الاستقرار والامن ويسهل لهم عملية كسب رزقهم اليومي. من هنا نرى الحراك الثوري يبدأ بموجة عارمة ما تلبث أن تنشطر وتتشظى الى حد التلاشي وفي معظم الاحيان تتحول الى تحرك مدان يجب وضع حد له. ولن يجد هؤلاء مفرا من المناداة ببطل ينقذ الموقف ويعيد الامور إلى نصابها ويحقق الاستقرار. ويجب ألاّ يفوتنا تأثير العامل الثقافي التفليدي النابع من الايديولوجية الدينية، ودورها في ترسيخ فكرة (الراعي والرعية) من هنا، يكون من السهولة بمكان بعد كل موجة ثورية عارمة اللجوء الى شخصية وغالبا ما تكون من المؤسسة الاكثر تماسكا في المجتمع وهي المؤسسة العسكرية، وفي حال ضعفها، يتم اللجوء الى الشخصيات الوجاهية التقليدية من رجال دين او زعماء عشائر. ونتساءل اين دور الاحزاب ذات التوجهات والافكار الحديثة؟ فللاسباب نفسها التي ادت الى تراجع الاقتصاد والانشطة الانتاجية يتراجع دور هذه الاحزاب، وتحل محلها أحزاب متماهية مع التوجهات الدينية والعشائرية، ووفقا لمستوى تفاوت وتطور او تخلف النشاط الاقتصادي لهذا البلد او ذاك. وهكذا تؤول الامور الى ان ترتفع الأصوات عالية بالمطالبة بالبطل المنقذ والمخلص وانتظاره بكل شوق كاسهل واقصر طريق للخلاص من هذا الوضع المعقد الذي بات لا يوفر الحد الادنى من الأمن والاستقرار. وبكل أسى نرى المنطقة اليوم تنزلق إلى كيانات صغيرة هشة، ومجتمعاتها تتشظى إلى ما يشبه (جماعات) أبعد ما تكون عن مفهوم المجتمعات بالمعنى الحديث. هذه الصورة القاتمة التي تسود المنطقة، وهي تغرق بالمآسي والدماء، هي الأخصب والأنسب للاتجاه نحو الدعوة إلى بطل ومنقذ ومخلص، بعد أن فقد الافراد القدرة على التحكم والسيطرة على مصائرهم أو أقدارهم، وصاروا وقودا دائما لموت يومي ومحتّم !!!                    
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) نبيل محمود، مأزق الربيع العربي، الحوار المتمدن، العدد:4135- 2013/6/26 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=365922

(2) هيغل، فنومينولوجيا الروح، ت.وتقديم:د.ناجي العونلي، المنظمة العربية للترجمة، بيروت 2006 ، ص 199.
(3) نبيل محمود، مهارة إنتاج الآثام!، الحوار المتمدن، العدد4185-  15/8/2013  المحور: مواضيع وابحاث سياسية 
(4) نبيل محمود، مأزق الربيع العربي، الحوار المتمدن، العدد:4135- 2013/6/26 http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=365922  
  
 27آب- أغسطس 2013